سلالات الأبقار المنتجة للألبان في فرنسا: تنوع، جودة، وتراث غذائي

فرنسا ليست مجرد بلد العطور و الخبز، بل هي أيضاً أرض الأبقار والألبان. فهل تعلم أن فرنسا تحتضن أكثر من عشرين سلالة مختلفة من أبقار الحليب؟ من بينها سلالات مشهورة مثل بريم هولشتاين ومونتبيليارد ونورماندي، وهي التي تشكل العمود الفقري للقطيع الفرنسي. ومع ذلك، لم يتوقف المزارعون والمهنيون في مجال تربية الماشية عند هذه السلالات الكبرى فقط، بل عملوا أيضاً على الحفاظ على سلالات أصيلة وأحياناً نادرة، بعضها يرتبط بمناطق جبلية، وبعضها الآخر ارتبط تاريخياً بصناعة أنواع محددة من الأجبان.

إن الحديث عن الأبقار في فرنسا ليس مجرد ذكر لحيوانات تعيش في الحقول، بل هو قصة عن التنوع الزراعي، عن الجهد البشري في تحسين السلالات، وعن الأهمية الاقتصادية والثقافية لهذه الحيوانات التي تساهم يومياً في غذاء ملايين البشر عبر منتجات الحليب والأجبان والزبدة. في هذه المقالة سنأخذك في جولة داخل عالم سلالات الأبقار الفرنسية المنتجة للألبان، نتعرف على خصائصها، وأصولها، وإسهاماتها في الصناعة الغذائية، ثم نختم بالحديث عن تغذيتها وأهميتها في الزراعة المستدامة.

سلالة ابقار أبوندونس: 

سلالة الوفرة (Abondance) تعتبر من السلالات الجبلية المميزة في فرنسا، وتعيش أساساً في مناطق جبال الألب. تتميز هذه الأبقار بأرجل رفيعة لكنها قوية للغاية، مما يجعلها قادرة على التنقل بسهولة بين الصخور دون مشاكل في القدمين. هذه القدرة جعلتها تتكيف بشكل رائع مع بيئة قاسية يصعب على سلالات أخرى التكيف معها.

ما يميز بقرة الوفرة أيضاً هو إنتاجها من الحليب الغني بالبروتين، الذي يدخل في صناعة أشهر أنواع الجبن الفرنسية المحمية بعلامة الجودة مثل جبن الوفرة نفسه (AOP)، وجبن البوفور، والريبلوشون، إضافة إلى جبن توم والإمنتال من سافوا. وهكذا، فإن هذه السلالة ليست مجرد مصدر للحليب، بل هي جزء لا يتجزأ من تراث الأجبان الفرنسية الجبلية.

سلالة ابقار البراون: 

سلالة برونيت (Brune des Alpes)، التي تُعرف أيضاً بـ"سمراء جبال الألب"، جاءت في الأصل من سويسرا، وانتشرت لاحقاً في فرنسا، خصوصاً في جبال الألب والبرانس. لونها الرمادي الفضي أو البيج يمنحها مظهراً أنيقاً، لكن ما يجعلها محط الأنظار فعلاً هو جودة حليبها.

يحتوي حليب البرونيت على نسبة عالية من البروتين، وخصائص الكازين فيه تمنحه قدرة مميزة على التخثر السريع وتكوين خثرة متماسكة. هذا ما يجعله مثالياً لصناعة الجبن، وهو في الواقع يمثل المصدر الأساسي لما يقارب ثلثي الحليب المستخدم في صناعة جبن إبويس الشهير (AOP).

سلالة ابقار الجيرسي :

سلالة جيرسي (Jersiaise) من أشهر سلالات الحليب في العالم، رغم أنها أقل انتشاراً في فرنسا. موطنها الأصلي هو جزيرة جيرسي، حيث تعلمت هذه الأبقار العيش في بيئة فقيرة من حيث الأعلاف. وعلى الرغم من صغر حجمها، فإن إنتاجها من الحليب يتميز بتركيز عالٍ من الدهون والكريمة، مما يجعله أساسياً في صناعة منتجات ألبان غنية بالطعم والقيمة الغذائية.

انتشرت هذه السلالة بشكل واسع خارج فرنسا، خصوصاً في أستراليا ونيوزيلندا، حيث يقدر المزارعون قيمة حليبها الكثيف والدهني.

 سلالة ابقار المونتبليار: 

تُعد مونتبليارد (Montbéliarde) واحدة من أهم السلالات الفرنسية، وموطنها الأصلي منطقة كومتي وشرق فرنسا. يسهل التعرف عليها بفضل بقعها البنية أو الحمراء الكبيرة على خلفية بيضاء، فيما يُعرف بلون "الفطيرة الحمراء".

هذه البقرة ليست فقط جميلة المظهر، بل هي أيضاً منتجة رائعة للحليب، حيث يصل متوسط إنتاجها إلى أكثر من 7600 كجم سنوياً. والأهم أن حليبها غني بالبروتين، ما يجعله أساساً في صناعة أجبان مشهورة مثل الموربييه، الريبلوشون، الكانتال، والجبن الذهبي للمقاطعة الفرنسية: الكومتي.

سلالة ابقار النورماندي: 

ترتبط سلالة نورماندي (Normande) بتاريخ طويل، إذ يعتقد أنها جاءت مع الفايكنج الذين جلبوا أبقارهم على متن سفنهم. يمكن التعرف عليها من خلال لونها الأبيض المرقط بالبني، وبقعها المميزة حول العينين التي تبدو كأنها نظارات طبيعية.

يتميز حليب النورماندي بجودته العالية، ويُستخدم بشكل رئيسي في صناعة أشهر منتجات نورماندي مثل جبن الكاممبرت المعروف عالمياً، إضافة إلى غيره من منتجات الألبان المحمية بعلامة الجودة.

سلالة ابقار بريم هولشتاين:

لا يمكن الحديث عن الأبقار الفرنسية دون ذكر بريم هولشتاين (Prim’Holstein)، التي تُعد السلالة الأكثر انتشاراً في فرنسا، حيث تمثل حوالي 80٪ من القطيع الوطني. تتميز هذه الأبقار بحجمها الكبير ولونها الأبيض مع بقع سوداء كبيرة، وأحياناً تكون سوداء بالكامل مع أرجل بيضاء.

ما يميز الهولشتاين فعلاً هو غزارة إنتاجها، إذ يمكن لبعض الأبقار أن تنتج ما يصل إلى 10,000 لتر من الحليب سنوياً، بينما يبلغ المتوسط حوالي 8500 لتر. حليبها يستخدم في مجموعة واسعة من منتجات الألبان، ما يجعلها العمود الفقري لصناعة الألبان الفرنسية.

سلالة ابقار الفلامان الحمراء: 

سلالة الفلامان الحمراء (Rouge Flamande) تتركز بشكل أساسي في منطقة نورد با دو كاليه وبعض المناطق الأخرى مثل السوم وآردين ونورماندي. لونها بني ماهوجني عميق، وحليبها غني جداً بالبروتين، مما يجعله مثالياً لصناعة الجبن.

من أشهر الأجبان التي يدخل حليبها في إنتاجها: جبن مارويل (AOP)، الميموليت، وجبن بيرغ، إضافة إلى تخصصات أخرى من شمال فرنسا.

سلالة ابقار الساليرز: 

تُعرف سلالة سالرز (Salers) بلقب "البوريت" بسبب شعرها الطويل والخشن. هذه البقرة من منطقة كانتال، وتشتهر بقدرتها على إرضاع عجلين في الوقت نفسه.

ورغم أن إنتاجها من الحليب أقل من بعض السلالات المتخصصة، فإن حليبها غني بالدهون والبروتين، ويُعتبر مثالياً لصناعة الجبن. أشهر منتجاتها هو جبن سالرز AOP، الذي يُنتج بين منتصف أبريل ومنتصف نوفمبر، حين تتغذى الأبقار حصرياً على العشب الطازج.

سلالة ابقار السيمنتال الفرنسية: 

السيمنتال الفرنسية (Simmental Française)، التي كانت تُعرف سابقاً بالفطيرة الحمراء الشرقية، تنتشر في الألزاس، فرانش كومتي، بورغوندي، ورون ألب. وتُعتبر منطقة أفيرون من أهم مواطنها اليوم.

بفضل خصائص حليبها، تدخل هذه السلالة في صناعة عدد من الأجبان المحمية بعلامة الجودة، مثل لاجويول، الكومتي، الموربييه، والبلو دي جكس. وهذا يجعلها واحدة من السلالات المفضلة في المناطق التي يزدهر فيها إنتاج الجبن.

ماذا تأكل الأبقار؟

الأبقار حيوانات عاشبة تعتمد في غذائها على العشب الطازج من المراعي، إضافة إلى القش، الذرة السيلاجية، البنجر، الحبوب مثل القمح والشعير والشوفان، وكذلك الكعك الذي ينتج من بقايا عصر البذور الزيتية.

في فرنسا، يتم إنتاج حوالي 98٪ من أعلاف الأبقار داخل المزارع نفسها، ما يعكس الاعتماد الكبير على الموارد المحلية، ويعزز من استدامة الزراعة الفرنسية. ويأتي نصف غذاء الأبقار تقريباً من المراعي الطبيعية، وهو ما يمنح الحليب الفرنسي خصائص غذائية وطعماً مميزاً.

 أهمية الأبقار الفرنسية في الزراعة والاقتصاد

إلى جانب إنتاج الحليب والجبن، تلعب الأبقار الفرنسية دوراً محورياً في الحفاظ على المناظر الطبيعية والمراعي الجبلية. كما تساهم في الاقتصاد الريفي من خلال توفير فرص عمل في مزارع الألبان ومصانع الأجبان. إضافة إلى ذلك، فإن التنوع الكبير في السلالات يعكس حرص فرنسا على الحفاظ على تراثها الزراعي وموروثها الغذائي.

 خاتمة :

إن عالم الأبقار الفرنسية المنتجة للألبان هو عالم متنوع ومليء بالقصص. من جبال الألب إلى سهول نورماندي، ومن جبال كانتال إلى أراضي الفلاندرز، تعكس هذه السلالات تنوع البيئة الفرنسية وثقافتها الغذائية الغنية. وبفضل حليبها، صُنعت أجبان عالمية اكتسبت شهرة تتجاوز حدود فرنسا.

هذا التنوع لم يأتِ صدفة، بل هو نتاج عمل متواصل من المزارعين الذين سعوا للحفاظ على الجودة والهوية المحلية، وفي الوقت نفسه ضمان تلبية احتياجات السوق. وهكذا، تظل الأبقار الفرنسية رمزاً للغذاء الصحي، التراث الزراعي، والإبداع في عالم الألبان.