محاولة جريئة لتكييف الشعير مع المناطق النائية في تونس: مستقبل الأمن الغذائي في مواجهة الجفاف
تعيش تونس خلال السنوات الأخيرة تحديات مناخية قاسية، أبرزها ارتفاع درجات الحرارة وقلّة الأمطار، ما جعل المزارعين في المناطق الجافة يبحثون عن محاصيل أكثر قدرة على الصمود. ويأتي الشعير في مقدمة هذه المحاصيل بفضل تحمّله للجفاف وقلّة احتياجاته من المدخلات الزراعية. ومع تزايد موجات الجفاف وتراجع الإمكانيات المائية، يتجه المزارعون بشكل أكبر إلى الشعير لضمان قوتهم وقوت ماشيتهم.
هذه المقالة تستعرض جهود الباحثين والمزارعين والمؤسسات العلمية في تونس وشمال أفريقيا لتطوير أصناف شعير أكثر قدرة على مواجهة تغيّرات المناخ، كما تسلّط الضوء على قصص حقيقية من الميدان تسعى لضمان الأمن الغذائي والاستدامة.
تحديات المناخ وتأثيره على زراعة الشعير في تونس:
عاصفة قصيرة… خسائر كبيرة:
في منطقة الكاف، أتت عاصفة برد قوية وخاطفة على حقل شعير كامل تابع للمعهد الوطني للبحوث الزراعية بتونس (INRAT)، قبل أيام قليلة من موسم الحصاد. وعلى الرغم من أن العاصفة لم تستغرق أكثر من نصف ساعة، فإنها كانت كافية لتدمير جهود استمرت شهوراً.
تعكس هذه الحادثة الواقع الصعب للمزارعين ولجهود البحث العلمي، إذ يؤثر تغيّر المناخ بشكل مباشر على محاصيل المناطق الجافة.
الجفاف المتكرر وتراجع الإنتاج:
شهدت تونس خلال العقد الأخير موجات متتالية من الجفاف. ففي عام 2023، كانت الظروف المناخية قاسية إلى درجة فقد معها INRAT تقريباً جميع التجارب الحقلية المخصصة لتحسين سلالات الشعير.
ومع ذلك، تلقّى البرنامج دفعة جديدة عام 2024 عندما أرسل المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (ICARDA) أكثر من 1200 صنف جديد محتمل لإعادة بناء برامج التحسين.
لماذا الشعير هو خيار المستقبل في المناطق الجافة؟
محصول يتحمّل الظروف القاسية :
يتميّز الشعير بقدرته على الصمود في مواجهة الحرارة والجفاف مقارنة بالقمح ومعظم محاصيل الحبوب الأخرى.
ويقول الدكتور ميغيل سانشيز غارسيا، خبير تهجين الشعير في "إيكاردا":
"الشعير في شمال أفريقيا ليس مجرد محصول، بل عنصر أساسي في أمن المزارعين وقطعانهم. بالنسبة لصغار المزارعين، قد يكون الشعير هو الفارق بين سنة صعبة وسنة كارثية."
دور الشعير في الأمن الغذائي والعلفي:
لا يوفّر الشعير الغذاء للأسر الريفية فقط، بل يمثّل المصدر الرئيسي للأعلاف، خصوصاً في المناطق التي يعتمد سكانها على تربية الأغنام والأبقار.
ويشير ميغيل إلى أنه عندما يقل العلف تتعرض المواشي للخطر، ما قد يدفع الأسر لاتخاذ قرارات اجتماعية صعبة، مثل إرسال الأبناء للعمل في المدن.
مشاريع دولية لتطوير أصناف شعير مقاومة للجفاف:
تعاون بين ICARDA ومشروع BOLD
لمساعدة المزارعين على التأقلم مع التغيرات المناخية، يتعاون علماء ICARDA مع مشروع "التنوع البيولوجي من أجل الفرص وسبل العيش والتنمية" المعروف اختصاراً بـ BOLD، لتطوير أصناف محسّنة وقادرة على مواجهة الجفاف.
اختبار الأصناف في عدة دول أفريقية:
ضمن برنامج BOLD، نقل الباحثون أصناف شعير واعدة إلى تونس والسنغال ونيجيريا وإثيوبيا، حيث يتم اختبارها من قبل باحثين ومزارعين محليين لضمان ملاءمتها للبيئات المختلفة.
تجارب ميدانية تقودها التعاونيات النسائية في قلعة سنان:
دور جمعية "الحياة" للتنمية الزراعية:
في منطقة قلعة سنان، تشارك تعاونية نسائية في تجارب زراعة أصناف شعير محسّنة جرى تطويرها ضمن برنامج BOLD.
وتوضح هاجر بن غانم، منسقة البرنامج الوطني لتربية الشعير في INRAT:
"هذه المنطقة تُعتبر أرض الشعير. النساء يعتمدن عليه لإطعام عائلاتهن ومواشيهن."
مشاكل الحصول على البذور:
تقول رئيسة التعاونية، ليلى عمراني، إن شعير المنطقة يُفضَّل على القمح لأنه يتحمّل التربة الفقيرة والجفاف ويُنتج قشاً عالي القيمة.
وتضيف: "أكبر مشكلة نواجهها هي البذور الجيدة. عام 2023 كان كارثياً، لذلك قبلنا تجربة الأصناف الجديدة دون تردد."
نتائج أولية مشجعة :
في القطعة التجريبية الصغيرة قرب منزل حكيمة بن حاج نسيب، لاحظ الباحثون أن نوعين من أصناف BOLD ينموان بشكل جيد، ومن المتوقع أن يُنتجا كمية قش أكبر من الأصناف المحلية. ومع ذلك، يبقى القرار النهائي للنساء بعد الحصاد.
نحو تمكين المزارعين المحليين:
من البحث إلى الإنتاج الفعلي:
تأمل هاجر بن غانم أن تجد التعاونية صنفاً مناسباً وتبدأ في تسجيله وتكاثره بنفسها، حتى تستطيع إنتاج بذور كافية للاستخدام المحلي وبيعها لمزارعين آخرين.
وتقول: "هذا هو التمكين الحقيقي للمزارعين."
اقتراب اعتماد صنف جديد: "غنجة" (السمراء):
صنف تونسي على وشك التسجيل
في المركز الإقليمي للبحوث في المحاصيل الكبيرة بباجة (CRRGC)، يجري اختبار صنف جديد من الشعير يُعرف باسم "غنجة"، مشتق من سلالة سورية قديمة.
وقد وصل مرحلة متقدمة ومن المتوقع نشره وإدراجه في الكتالوج الوطني خلال عام أو عامين.
مميزات صنف "غنجة :
* سبلة داكنة اللون
* إنتاجية جيدة
* قدرة عالية على مقاومة الأمراض
* قيمة غذائية مرتفعة
ويرى المزارعون أن الشعير الداكن ينتج علفاً أفضل للمواشي.
تحديات تبنّي أصناف جديدة من الشعير:
اختلاف تفضيلات الرجال والنساء في الزراعة:
تشير هاجر إلى أن الرجال يفضلون الأصناف الغنية بالحبوب والكتلة الحيوية لأنها تُستخدم غالباً كعلف.
أما النساء فيركّزن أكثر على جودة الطهي والمذاق لأنهن يستعملن الشعير مباشرة في الكسكس، والخبز، وحساء "المرمز".
أهمية مشاركة المزارعين في التقييم:
يؤكد الدكتور بنجامين كيليان، منسق مشروع BOLD، أن مشاركة المزارعين في اختيار الأصناف المناسبة ترفع بشكل كبير من فرص نجاح اعتمادها.
الشعير ودوره في الاقتصاد الزراعي التونسي:
فجوة كبيرة بين الإنتاج والاستهلاك:
تنتج تونس حوالي 30% فقط من استهلاكها من الشعير، وتعتمد على الاستيراد لتغطية البقية. وهو ما يشكل عبئاً اقتصادياً ثقيلاً، خاصة في سنوات الجفاف.
توجه مستقبلي واضح:
مع صعوبة زراعة القمح في المناطق الجافة، يتوقع الباحثون حدوث تحوّل متزايد نحو الشعير خلال السنوات المقبلة.
الخلاصة: الشعير ليس مجرد خيار بديل… بل هو مستقبل الزراعة في تونس
يقول الدكتور بنجامين: "الشعير ليس خياراً احتياطياً، بل هو المستقبل." ويواصل صندوق المحاصيل ومنظمة BOLD دعم الباحثين والمربين في مهمة تطوير أصناف جديدة أكثر قدرة على التكيف مع المناخ.
بالنسبة للمزارعين التونسيين، تمثل هذه الجهود بصيص أمل في مواجهة التغيرات المناخية. ومع تزايد الطلب على البذور المحسّنة وارتفاع وعي المزارعين، يبدو أن الشعير سيصبح أحد الدعائم الأساسية للأمن الغذائي في تونس خلال العقود القادمة.
